Search form

Newsletters

الوظائف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ودراسة الحالة المغربية

Uri Dadush | November 30, 2017

لا يمكن الحديث عن مشكلة وظائف مشتركة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فالبلدان التي تمزقها الحرب مثل سوريا واليمن تعد حالات متفردة. بينما بعض البلدان التي لا تطالها الحرب، مثل لبنان والأردن، فتشهد تدفق أعداد هائلة من اللاجئين الذين فرضوا ضغوطاً كبيرة على الأجور، خاصة في القطاع غير النظامي ذي المهارات المنخفضة (دادوش ونيبور 2016). أما البلدان المتبقية فيمكن تقسيمها إلى مجموعتين رئيسيتين: الدول المستوردة للطاقة مثل مصر والمغرب وتونس، والتي عجزت عن خلق وظائف كافية، خاصة للشباب، مما جعل هاته الدول مصدرا كبيرا للهجرة، حيت تتراوح نسبة المهاجرين من هذه الدول رسمياً بين 4 و8% من الساكنة، كما يمكن مضاعفة هذه النسبة إذا أخذنا بعين الاعتبار المهاجرين غير الشرعيين والأبناء الذين ولدوا في دول المهجر؛ وعلى النقيض من ذلك، خلقت الدول المصدرة للطاقة مثل المملكة العربية السعودية وظائف تفوق العمالة المتوفرة، كما أن الهجرة تظل منخفضة في هذه البلدان، في وقت تجذب فيه هذه الأخيرة العمال الأجانب وأسرهم، وهو ما أدى إلى ارتفاع في ساكنتها بنسبة تناهز 30%. أما في الإمارات العربية المتحدة وقطر، وهما الدولتان المصدرتان للنفط اللتان تقل كثيراً ساكنتهما الأصلية عن ساكنة السعودية، يمثل السكان الذين ولدوا في الخارج نسبة تصل إلى 80% من مجموع ساكنة البلدين.

وعلى الرغم من الحاجة الدائمة للعمالة الذي أدا الى تدفق العمال الأجانب بأعداد كبيرة، تعاني السعودية (وباقي دول الخليج بدرجة أقل) من ارتفاع البطالة أو البطالة المقنعة بين صفوف مواطنيها، كما وتعرف انخفاضاً ملحوظاً في معدلات المشاركة في سوق العمل بين صفوف النساء والشباب. لكن يبقى من الصعب ربط هذه الظاهرة بانخفاض الطلب على العمالة فقط، إذ أن هناك عوامل أخرى من قبيل التوقعات العالية للساكنة، وارتفاع الأجور الحكومية المؤدي الى تفضيل العمل في الحكومة، والآراء المتحفظة نسبيا فيما يتعلق باشتغال المرأة، قد تكون وراء هذا الإشكالية. كما أن عدم توافق المهارات الذي يعكس قصور المخرجات التعليمية يشكل بدوره مشكلاً حقيقياً. وقد ساهم الاعتماد على الوظائف الحكومية السهلة ولامتيازيه والريع بين صفوف النخب في إضعاف الحافز للعمل في القطاع الخاص. من جهتها، تعكس الجزائر بعضاً من خصائص سوق العمل في الدول المستوردة للطاقة رغم كونها دولة مصدرة لها. كما أن مؤهلاتها الطاقية تبقى متواضعة نسبياً مقارنة بساكنتها الكبيرة، وهي تعاني كذلك من ارتفاع بطالة الشباب وانتشار شتات كبير خارج البلاد، ناهيك عن أنها تكاد لا تتوفر على عمال أجانب.

  وكنموذج للإشكاليات المتعلقة بسوق العمل التي تواجه الدول المستوردة للنفط، يعتبر المغرب حالة جديرة بالمتابعة فيما يخص اختلال التوازن الهيكلي في سوق العمل.هذا ويجب الأخذ بعين الاعتبار دائما أن كل بلد يختلف عن غيره وأنه ما من نموذج مثالي.

 إن زيادة الوظائف، معظمها في القطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة، قد تمت بشكل أسرع في مصر والأردن مما كان عليه الحال في المغرب وتونس. رغم ان المغرب قد حقق نمواً أسرع مقارنة بمصر وتونس.

فقد حقق الناتج المحلي الإجمالي في المغرب نمواً ناهز 4.5% سنوياً ما بين 2000 و2014، وأكثر بقليل من 3% نسبة للفرد الواحد، وهي نتيجة محترمة مقارنة بغيره. وقد نجم عن هذا الأمر استحداث عدد من الوظائف، لكن دون الاقتراب من الاستجابة للعمالة المتزايدة. هذا ولا تقدم الأرقام المتعلقة بالبطالة، والتي وإن تراجعت خلال هذه الفترة فإنها ما تزال تناهز 10%، سوى صورة جزئية لوضع سوق العمل في المغرب، كما هو الحال بالنسبة لغيره من الدول النامية التي تعرف مستوى مرتفعاً من الأنشطة غير النظامية ومن البطالة المقنعة في القرى وفي بعض القطاعات بالخصوص مثل البناء.

غير أنني أعتقد أن المعطيات السكانية والأرقام المتعلقة بالوظائف تعطي صورة أكثر شمولية. فقد ارتفع عدد المغاربة الحاصلين على وظائف من 10 ملايين و200 ألف إلى 11 مليون و800 ألف مغربي على مدى الفترة ما بين 2000 و2014، أي بمعدل 115 ألف شخص سنويا. وعلى مدى هذه الفترة، شهدت القوة العاملة (الأشخاص في سن العمل، أي ما بين 15 و65 سنة) نمواً سريعاً بنسبة 2٪ سنوياً، أي بمعدل 383 ألف شخص، وبالتالي انخفضت نسبة السكان في سن العمل الحاصلين على وظائف من 53٪ في عام 2000 إلى 48٪ في عام 2014 . وهكذا، فإن نحو ثلث الزيادة في عدد السكان في سن العمل فقط سعوا إلى إيجاد فرص عمل ونجحوا في ذلك. ويعتبر الارتفاع الكبير في نسب الالتحاق بالمدارس الثانوية والعليا وراء جزء كبير من هذه الفجوة، كما أن حصة الحاصلين على الوظائف بين الساكنة البالغة 25 سنة فما فوق قد تراجعت بنقطتين (2) مئويتين، إضافة إلى أن العديد من الشباب قد هاجروا خارج البلاد. ولولا نسب الهجرة المرتفعة، والتي تظل البيانات حولها تقريبية في أفضل الأحوال، لكانت البطالة في المغرب أسوأ بكثير. فحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ناهز معدل المهاجرين من المغرب إلى دول المنظمة على مدى الفترة بين 2000 و2014 100 ألف شخص سنوياً  (حوالي 0.3% من الساكنة)، ويشمل هذا العدد أشخاصاً من مختلف الأعمار.

لكن التغيرات السكانية ليست سوى جزءاً من إشكالية عرض العمالة في المغرب. إذ يكتسي ضعف استغلال العمالة في القرى وبين صفوف الإناث نفس الأهمية. فأكثر من 35% من العمالة المغربية تنشط في الفلاحة، وحوالي 42% من هذه العمالة يعملون دون أجور، ما يترتب عنه ضعف شديد في الإنتاجية. وتظل المشاركة النسائية في المغرب حسب الفئات العمرية منخفضة جداً (حوالي 26%)، في وقت يرتفع فيه تعليم الإناث بشكل متواصل. هذا وتنتشر العمالة غير المستقرة في مختلف مجالات الاقتصاد المغربي. على سبيل المثال، 20٪ فقط من العمال لديهم تأمين صحي. لذلك هناك مجموعة كبيرة جدا من العمال غير المستغلين الذين يطرقون باب سوق العمل، سواء في القطاع النظامي أو غير النظامي، إضافة إلى الشباب.

ومن السمات الطاغية على عرض العمالة هو العدد الكبير من حاملي الشهادات وخريجي الجامعات الذين يبحثون عن وظائف جيدة في القطاع النظامي ولا يجدونها. فوفقاً للمندوبية السامية للتخطيط، تصل معدلات البطالة بين صفوف خريجي الجامعات إلى أعلى مستوياتها، حيث يمثلون 22% من مجموع السكان العاطلين عن العمل رسمياً (الذين يتواجدون بشكل كبير في المدن) مقابل 4% بالنسبة للذين لا يحملون أي شواهد.  لكن يجب توخي الحذر في تأويل هذه الأرقام، كون الأرقام المتعلقة بالبطالة الرسمية عادة ما تغطي بشكل أكثر دقة الساكنة الحضرية، وخريجو الجامعات غالباً ما يعيشون في المدن.

وقد ارتفع الطلب على العمال في المغرب بشكل بطيء، الأمر الذي يرجع جزئياً إلى أن النمو لم يساعد على استحداث وظائف كثيرة. ومن وجهة نظر حسابية (وليس اقتصادية)، كان من المفترض أن يتطلب النمو السريع في الانتاجية العمالية في المغرب، بنسبة 3.4% سنوياً خلال الفترة ما بين 2000 و2014، معدلات نمو تصل إلى 6% (وليس نسبة 4.5% التي تحققت) من أجل استيعاب تدفق العمال الجدد. وقد حقق القطاع الخاص، الذي يمثل حوالي 90% من الوظائف في المغرب، إنتاجا أعلى بعدد أقل نسبياً من العمال. 

لماذا كان نمو الإنتاجية العمالية سريعاً جداً؟ بغض النظر عن الملاحظة البديهية والتي تكمن في أن الإنتاجية العمالية في المغرب كانت منخفضة من البداية، توجد ثلاثة عوامل تؤثر في هذا النمو. أولاً، يحقق المغرب معدلاً عالياً في المدخرات والاستثمارات، حيث مثّلا 32% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2014. ووفقاً لدراسة شاملة أجراها توفيق عباد مؤخراً (مركز الدراسات والأبحاث التابع للمكتب الشريف للفوسفاط 2017)، لعب نمو الرأسمال دوراً مهماً في التنمية التي عرفها المغرب مؤخراً. وقد ارتفع معدل الرأسمال/العمالة بنسبة 4.9% سنوياً بين سنتي 2000 و2014، بشكل أسرع بكثير من الدول التي تقارن بالمغرب. وقد ارتبط هذا الاستثمار الكبير بانخفاض معدلات الإنتاجية الرأسمالية والانخفاض النسبي في معدلات نمو إنتاجية العوامل الكلية (1.1% سنوياً). وفي دراسة سابقة، وجد أجينور والعيناوي (مركز الدراسات والأبحاث التابع للمكتب الشريف للفوسفاط، 2015) أن المغرب يملك واحداً من أدنى معدلات الانتاجية الاستثمارية في العالم، والتي يتم قياسها عن طريق المعامل الحدي لرأس المال. ورغم أن حصة غير متناسبة من هذه الاستثمارات كانت في القطاع العام، مثل الاستثمار في البنية التحتية، لم تكن دائمة فعالة، إلا أنها كانت مكملة للاستثمارات الخاصة والعمالة، حيث ساعدت كلا القطاعين على تعويض العمالة وتعزيز الإنتاجية. 

ثانياً، لعبت الاستثمارات الكبرى في الرأسمال البشري دوراً في هذا النمو. حيث تظل القوى العاملة المغربية أقل مهارة مقارنة بدول أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ودول تملك نفس الدخل الفردي (أجينور والعيناوي، 2015). ووفقاً لمنظمة اليونيسكو، وصلت نسبة الأمية في المغرب في 2015 إلى 17% بين الذكور البالغين و37% بين النساء البالغات.  هذا ويحقق المغاربة في سن 15 سنة معدلات ضعيفة في الاختبارات المعيارية الدولية. لكن من الجدير بالذكر أيضا ان هناك ارتفاع كبير في معدلات الالتحاق بالمدارس، والنتائج في تحسن مستمر. فعلى سبيل المثال، تحسنت معدلات القدرة على القراءة والكتابة بين البالغين بما يقارب 15% على مدى العقد الأخير، مع ارتفاع معدلات إتمام المرحلة الابتدائية من 58% بالنسبة للفئة العمرية المعنية سنة 2000 إلى 102% سنة 2014. وارتفعت معدلات الالتحاق بالمدرسة الثانوية بين الذكور من 42% إلى 59% بين سنتي 2005 و2012، بينما وصلت المعدلات الخاصة بالفتيات إلى 90% من معدلات الذكور.    

ثالثاً، رغم صعوبة التأكد من درجة نمو الإنتاجية العمالية في المغرب الذي يمكن أن يعزى للتغير التكنولوجي، توجد أدلة على أن هذا التغير قد لعب دوراً مهماً (انظر عباد، 2017). وتنحصر جميع التحسينات التي طرأت على الإنتاجية العمالية تقريباً داخل القطاعات الإنتاجية بذاتها، ويرجع بعضها فقط إلى التحول من القطاعات ذات القيمة المضافة المنخفضة إلى القطاعات ذات القيمة المضافة العالية. وقد ارتفعت قدرة المغرب على الاعتماد على التكنولوجيا نظراً لأن العمال يحظون بتعليم أفضل (4 عمال من أصل 10 قاموا بإتمام التعليم الإعدادي مقارنة بـ3 من أصل 10 سنة 2000) ولأن اقتصاد البلاد أصبح أكثر انفتاحاً. وبين سنتي 1990 و2014، ارتفع معدل الناتج المحلي الإجمالي من التبادل التجاري من 25% إلى 35%، ومعدل الناتج المحلي الإجمالي من الاستثمار الأجنبي المباشر من 0.5% إلى 3.1%. كما ساهم التفاعل المكثف بين المغرب والمهاجرين المغاربة الكثر في الخارج في قدرته على استيعاب التكنولوجيا. وبقدر ما يتوافق اعتماد المغرب على التكنولوجيا مع الاتجاهات الدولية السائدة (وأنا أعتقد أنه يتوافق معها فعلاً)، فهو منحاز للمهارة، أي أنه عادة ما يعوض العمال غير الماهرين ويشجع العمال ذوي المهارة. هذا الأمر، إلى جانب نمو الرأسمال، يمكن أن يساعد على تفسير التصور السائد حول قلة المهارة في المغرب والأجور المرتفعة نسبياً للعمال ذوي المهارات.        

ومن المظاهر البارزة للنمو السريع والمتزايد للإنتاجية العمالية في المغرب هو انخفاض حصة التوظيف في قطاع التصنيع، حتى مع نمو القيمة المضافة للقطاع. ووفقاً للمندوبية السامية للتخطيط، خلق قطاع التصنيع في المغرب بين سنتي 2000 و2014 وظائف في معالجة الأغذية والأفرشة والتعدين وقطاع السيارات ذي القيمة المضافة العالية، إلا أن معظم هذه الوظائف المكتسبة قد قابلها انخفاض كبير في الوظائف في قطاع الملابس الجاهزة والمنسوجات. وينحصر الجزء الأكبر من صافي النمو الذي عرفه التوظيف في المغرب في قطاعي الخدمات والبناء. وربما كان من المتوقع أن يزيد كل من الانفتاح والاتفاقيات التجارية من الطلب على العمالة المغربية، خاصة العمال غير الماهرين، إلا أن هذا الأمر لم يتحقق. ولم تعرف الوظائف في قطاع التصنيع أي تسارع. ويجب القول إن المغرب يعد واحداً من عدة دول ذات دخل منخفض عانت من المنافسة في قطاعي الملابس الجاهزة والمنسوجات على خلفية انتهاء مدة الاتفاق المتعلق بالمنسوجات المتعددة الألياف سنة 2004. ولم تعرف سوى بلدان قليلة، مثل فيتنام وبنغلاديش، ارتفاعاً مهماً في وظائف التصنيع خلال السنوات الأخيرة (دادوش، 2015).   

إذاً من الواضح أن جوهر البطالة المستمرة والبطالة المقنعة في المغرب يرجع إلى عوامل متعلقة بعرض العمالة، مثل النمو السريع في القوى العاملة وتوفر فائض في عمالة، وعوامل متعلقة بالطلب على العمالة، من قبيل تحقيق معدل جيد لنمو الناتج المحلي الإجمالي مرتبط بتحسن الإنتاجية العمالية، وانعكاس الاستثمارات على الرأسمال المادي والبشري وكذا تحسن التكنولوجيا.  

غير أن كل هذا يدعو إلى التساؤل عن السبب وراء عدم تكيف سوق العمل بشكل أسرع من خلال الأجور المنخفضة، وعن السبب وراء عدم نمو الطلب على العمالة بسرعة أكبر في ضوء الإنتاجية المتزايدة للعمالة. ووفقاً للنهج الكلاسيكي، يمكن ذكر بعض صور الجمود المعروفة والتي لا داعي لتناولها بالتفصيل هنا (شوفور، 2018)، والموجودة في المغرب (مثل العديد من الدول) فيما يتعلق بسوق المنتجات (مثل ضعف قابلية التنافس) وسوق العمل (مثلاً القواعد الصارمة لتعيين وفصل اليد العاملة). وليس لدي شك في أن هذه الصرامة تساهم في تفسير فشل تكيف سوق العمل في القطاع النظامي. لكني لا أجد أن هذه التفسيرات كافية. فعلى سبيل المثال، القطاع غير النظامي موجود بشكل كبير في المغرب (يتم ما يقارب 30٪ من العمل ضمن هذا القطاع)، مما يشير إلى أن جزءاً كبيراً من الاقتصاد يتسم بالمرونة. فلماذا لم تنخفض الأجور لاستيعاب فائض العمالة في القطاع غير النظامي؟

وكما هو الحال في دول الخليج، يمكننا الإشارة إلى التوقعات العالية وأجور التحفظ المرتفعة، ولكن يتعذر علينا تقديم شرح كامل بهذا الخصوص. أستطيع القول بأن سرعة التغييرات مهمة. فالمغرب اقتصاد يمر بمرحلة تحول واسعة النطاق على المستويين السكاني والهيكلي وذلك في فترة زمنية قصيرة جداً. وليس من المبالغ فيه القول إن أغلبية الساكنة المغربية هي في طور الانتقال من مجتمع قروي تقليدي إلى مجتمع يعيش في القرن الـ21. إن المغرب، بعد أن حقق الاستقلال في عام 1956، هو أمة يتعين عليها التأقلم بشكل مفاجئ مع التكنولوجيا المتقدمة والعولمة المفرطة وتحرر المرأة و وتزايد متوسط الأعمار وانخفاض معدلات الخصوبة. 

ومن أوجه التغيير الأخرى، نجد إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات العمالية، التي كانت في السابق قائمة على العادات والأعراف، وأصبحت حالياً - في إطار القطاع النظامي- تخضع لقواعد صارمة لتعيين وفصل العمال. وخلاصة القول أن اقتصاد المغرب يحتاج إلى الوقت للتكيف مع عالم مختلف، ويظهر هذا بوضوح من خلال اختلال التوازن الهيكلي لسوق العمل. هذا وقد تمكنت بعض الاقتصادات الآسيوية الفقيرة جداً من التعامل بطريقة أفضل بكثير من المغرب مع عاصفة التغيير هاته، لكن إنجازات أغلبية الاقتصادات الفقيرة الأخرى في هذا الإطار أسوأ مما حققه المغرب.
   
هل سيتمكن سوق العمل المغربي من التعافي قريباً؟ إن ما يدعو للارتياح هو أن نمو القوة العاملة يعرف انخفاضاً نتيجة نقص كبير في الخصوبة على مدى الجيل الماضي، حيث وصل معدل الخصوبة حالياً إلى أقل من %1.5 في السنة بالمقارنة مع 2.5% في السنة خلال سنة 2000. وبفضل هذا الأمر وقليل من الحظ، قد يصبح نمو الناتج المحلي الإجمالي ثابتاً في السنوات القادمة (في ظل تعافي أوروبا واستمرار انخفاض أسعار النفط، إلى غير ذلك) (صندوق النقد الدولي، 2017). لكن للأسف، ستؤدي عوامل أخرى إلى تفاقم مشكل العمالة، حيث سيستمر الاعتماد على التكنولوجيا دون شك في تقليل الحاجة إلى اليد العاملة، خاصة اليد العاملة ذات المهارات المنخفضة. وعلى الأرجح ستظل معدلات المغرب من حيث الادخار والاستثمار مرتفعة (نظراً للنمو البطيء في القوة العاملة) وسيستمر معدل الرأسمال/العمالة في الارتفاع بشكل سريع. 

وقد تم ايضا تقييد الهجرة، كما أصبح عدد النساء المتعلمات أكبر، فضلاً عن أنهن يرغبن في الحصول على عمل. غير أن جزءاً كبيراً من الساكنة لا يزال يقطن في القرى ويسعى لعيش حياة أفضل. لذلك فإني لا أتوقع أن يختفي مشكل العمالة في المغرب في المستقبل القريب. وتتماشى هذه الخلاصة المتشائمة مع استنتاج أجينور والعيناوي (مركز الدراسات والأبحاث التابع للمكتب الشريف للفوسفاط، 2015)، حيث إن نموذج تمارين المحاكاة الخاص بهما يشير إلى أنه حتى وإن تم تحقيق معدل نمو مستدام يصل إلى 6٪، سيتم توفير فرص عمل كافية للوافدين الجدد، ولكن عدد العاطلين عن العمل (والذين يعانون من البطالة المقنعة) بالكاد سيشهد أي تغييراً.

وليس باستطاعة السياسات العامة أن تأمل في تغيير مشكل فائض العمالة المغربية بشكل سريع، لكن بإمكانها المساهمة في التخفيف من حدته. وبعيداً عن الحلول المعروفة والقيمة حول تسريع النمو (تعزيز القابلية التنافسية للأسواق، وتسريع الإصلاحات المتعلقة بالحكامة وبمناخ الأعمال، إلى غير ذلك) (شوفور، 2017)، أعتقد أن باستطاعة ثلاثة تدابير أن تسفر عن نتائج ذات مغزى: يتمثل التدبير الأول في الاعتراف صراحة بأن قطاعات الخدمات الكبرى وخصوصا الدينامية منها، وليس فقط أو على وجه الخصوص التصنيع، هي أكبر المجالات التي تخلق فرص العمل. وينطوي هذا الأمر على مقاربة منهجية لإزالة العقبات التي تقف أمام نمو القطاعات من قبيل السياحة والتعمير والقطاع المالي.  
ويتجلى ثاني التدابير في إيجاد طرق لتقليل توجيه الاستثمار (التمويل) للقطاع العام وتحويله أكثر لصالح القطاع الخاص، خاصة القطاعات التي تتطلب وجوداً مكثفاً للعمالة، والمقاولات الصغرى التي تتحمل مهمة استحداث معظم فرص العمل في المغرب.

أما التدبير الثالث فهو إبرام اتفاقيات دولية مع دول في حاجة لليد العاملة لجعل الهجرة أكثر تنظيماً، الأمر الذي أعترف بأن الحديث عنه أسهل من تطبيقه في الوقت الراهن. كما يتبادرأيضا إلى الذهن سؤال عما إذا كانت الاستثمارات الكبيرة الإضافية في مجال التعليم ستساعد على تكييف سوق العمل المغربي على المدى الطويل. الجواب عن هذا السؤال بالتأكيد هو لا –  إلا أنه يبدو أن هناك حاجة ماسة لجعل الإنفاق على التعليم أكثر فعالية من خلال جعله أكثر استهدافا وانتقائية ومن خلال تقليص الهدر.