الوظائف والتصنيع والعولمة
لقد حققت معدلات الدخل ومستويات العيش تحسناً غير مسبوق في العديد من مناطق العالم، وذلك بعد أن عرفت ارتفاعاً مطرداً على مدى عقود متتالية. بيد أن آفاق التجارة العالمية والنمو الاقتصادي ما تزال محفوفة بالغموض، كما يبدو أن النزعة الحمئية سائرة في تزايد مستمر. ففي الدول المتقدمة، هناك قلق ناجم عن فقدان الوظائف التصنيعية التي شغَّلت فيما مضى فئة كبيرة من العمالة، وخلقت طبقة متوسطة شكلت نواة الديمقراطية في هذه الدول. هذا ولم تنجح معظم الدول ذات الدخل المتوسط في اللَّحاق بنظيرتها العالية الدخل رغم عقود من النمو. من جهة أخرى، فإن التقدم الذي تم تحقيقه في الدول ذات الدخل المنخفض، خاصة منها دول إفريقيا جنوب الصحراء – من حيث تحقيق النمو في الإنتاجية وتفعيل التغييرات الهيكلية، والتي تعد من السمات الرئيسية للتنمية الاقتصادية – لا يمكن اعتباره مشجعاً، بل إن بعض الدول شهدت تحولاً هيكلياً عكسياً، وفي بعض الحالات وصل الأمر إلى انكماش النشاط الصناعي.
إن هذا الكتاب المعنون "الوظائف والتصنيع والعولمة" يدرس المشاكل الهيكلية في مجموعة من الدول (معروضة حسب مستويات دخلها) ويبحث عن حلول لها. فعلى سبيل المثال، يكشف التحليل الذي يقدمه الكتاب عن إشكاليات رئيسية في الدول ذات الدخل المنخفض: أولاً، وبالنظر إلى الفروقات الشاسعة على مستوى الإنتاجية بين مختلف القطاعات في هذه الدول، فإن تحسين الإنتاجية العامة سيكون مفعوله أكبر إذا ما تم تخصيص الموارد بين مختلف القطاعات وليس تركيزها داخل قطاع واحد، من خلال المزيد من الاستثمار في قطاعات بعينها. لذلك فإن نقل الموارد من القطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة إلى نظيرتها ذات الإنتاجية المرتفعة ستكون له آثار إيجابية؛ ثانياً، وحتى يتحقق هذا الأمر، يجب استحداث المزيد من الوظائف في القطاعات ذات الإنتاجية المرتفعة ليكون بإمكان العمالة العاطلة أو التي تم تسريحها الانتقال للعمل في هذه القطاعات؛ ثالثاً، قد لا يكون دائما التحول إلى القطاعات التي ترتفع إنتاجيتها، مثل المالية أو الخدمات العالية القيمة، بمثابة الاستراتيجية الأمثل، لأن ذلك من شأنه خلق فائض في العمالة، إذ سيقلص السعيُ وراء درجات فعالية أكبر من احتياجات هذه القطاعات إلى القوة العاملة، إلاَّ إذا توسعت هذه القطاعات بوتيرة أسرع من وتيرة نمو إنتاجيتها. لذلك فإن أفضل تحول هيكلي قد تعرفه اقتصادات تلك الدول يكمن في نقل أنشطتها من المجالات ذات الإنتاجية المنخفضة إلى المجالات ذات الإنتاجية المرتفعة بشكل متواصل مثل التصنيع. أمَّا رابعاً، فيمكن اعتبار استحداث الوظائف نواة الاستراتيجية الرامية إلى إنعاش النمو وتحقيق التحول الهيكلي المذكور
ويسلط الكتاب الضوء أيضاً على الفرصة الهائلة المتاحة أمام الدول ذات الدخل المنخفض لتحويل الموارد من القطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة إلى نظيرتها ذات الإنتاجية المرتفعة. هذا وتعتبر دول إفريقيا جنوب الصحراء أرضاً خصبة لمثل هذا التحول الهيكلي، حيث إنها تتميز بخاصيتين تعززان فرص نجاح السياسات المذكورة أعلاه؛ أولاهما أن الدينامية السكانية في هذه الدول – حيث تتصاعد نسب الشباب وطموحاتهم وتطلعاتهم –تضع ضغوطاً متزايدة على السلطات المعنية من أجل استحداث مزيد من الوظائف؛ والثانية تكمن في أن اقتصاد العديد من دول هذه المجموعة تعتمد بالخصوص على استغلال الموارد الطبيعية وتواجه مشاكل جمة بسبب البطالة. لذلك فإن مسألة استحداث الوظائف تأتي على رأس أولويات أجندتها السياسية.
من جهة أخرى، فإن التصنيع الخفيف في الدول ذات الدخل المنخفض – وما يصاحبه من متطلبات رأسمالية منخفضة، وتكنولوجيا متوفرة بسهولة نسيا، بالإضافة إلى إمكانيات تسويق في الأسواق المحلية والدولية – يختزن إمكانيات مهمة للعب دور منصة انطلاق اقتصادية ستمكن من توسيع القاعدة الإنتاجية وزيادة الوظائف والإنتاجية والصادرات. ومن أجل تجاوز العقبات المتعددة التي تواجه تنمية هذا القطاع، يقترح الكتاب مقاربة هادفة ومتدرجة يتم من خلالها تحديد الإكراهات في قطاعات التصنيع الخفيف بالإضافة إلى الحلول اللازمة لتقليص أو حتى إزالة هذه الإكراهات.
لقد أصبح الاقتصاد العالمي أكثر تكاملاً، حيث لم يعد الانتاج يتم في دولة واحدة، بل هو عملية مقسمة. ففي ظل البحث عن أرخص التكاليف، يتم إنتاج مختلف مكونات منتج ما في مصانع تتواجد في دول مختلفة. هذا الإنتاج القائم على المهام أو سلسلة القيمة العالمية هو نتيجة مباشرة للعولمة، وتترتب عنه آثار مهمة على انتقال الدول من وضعية الدخل المتوسط إلى الدخل المرتفع. وفي هذا السياق، يتطلب النمو الاقتصادي والتحول الهيكلي توسع الصناعات المحلية عن طريق الانتقال إلى مهام ذات قيمة مضافة أعلى داخل نفس القطاع أو في قطاعات متعددة. فهدف الشركات الذي يتمثل في تعظيم الانتاج يختلف عن هدف الدول الذي يكمن في تعظيم القيمة المضافة. ويعتبر تحقيق عملية الارتقاء أكثر صعوبة بالنسبة للدول النامية في ظل نظام تصنيع متخصص عمودياً، حيث لا يكون هذا التخصص عبارة عن سياسة وطنية مبنية على تقدير الحكومة، بل يتم توجيهها من طرف الشركات الرائدة التي غالباً ما تتواجد مقراتها في الدول المتقدمة. لذلك غالبا ما يوجد تعارض محتمل بين السياسات الوطنية وسياسات الشركات الرائدة.
على صعيد اخر، لطالما كانت الفترة التي تحتاجها دولة ما للمرور عبر مرحلة الدخل المتوسط طويلة. ويبدو أن الدول الواقعة حالياً في شرك الدخل المتوسط تنتمي إلى فئتين: الأولى تشمل الدول المخضرمة مثل الأرجنتين والبرازيل التي ظلت تتأرجح في وضعية الدخل المتوسط لمدة طويلة. وتضم الفئة الثانية الدول المنضمة حديثاً لهذه المجموعة، مثل ماليزيا وتايلاند، حيث نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد -نتيجة استراتيجية التصنيع المتخصص عمودياً- بدأ يتباطأ بعد فترة طويلة من محاولة اللحاق بالدول ذات الدخل المتوسط الأعلى.
وغالباً ما تفوت الدول ذات الدخل المتوسط، والتي تهيمن فيها المواد الخام والسلع على الإنتاج المحلي وبنية الصادرات (مثل الأرجنتين والبرازيل)، فرصة اتخاذ الطريق الأسرع نحو التصنيع. ونظراً للأجور المرتفعة نسبياً في هذه الدول (المخضرمة)، فإن السياسة المنطقية بالنسبة لها قد تشمل التركيز على البحث العلمي وتطوير القدرات التقنية للصناعات العالية التكنولوجيا المرتبطة بالموارد الطبيعية. هناك مجال تركيز آخر يتمثل في استحداث وظائف في قطاع الخدمات ذات القيمة المضافة العالية أو تلك التي تملك إمكانية رفع القيمة المضافة، مثل القطاع البنكي والمالي والتأمينات والرعاية الصحية، وبصورة خاصة، الخدمات التي يمكن تصديرها. ويجب على الحكومات في الدول ذات الدخل المتوسط والتي تملك تصنيعاً متخصصاً عمودياً مثل ماليزيا وتايلاند، لعب دور أكثر فاعلية في التعليم والتدريب، وأيضاً في إيجاد طرق من أجل إدماج المنتجين المحليين في الشركات المملوكة للأجانب وفي السوق الدولية. ويجب معاملة المصدرين غير المباشرين كنظرائهم المباشرين، كما يجب صياغة سياسات بغرض تعزيز تنوع السلع الوسيطة وجودتها، هذه السلع التي عادة ما تحتاج إلى رؤوس أموال أكبر وتتطلب مهارات أكثر من السلع النهائية. هذا ويجب على الحكومات العمل كمحفز للمساعدة في نمو الشركات في مختلف مراحل دورة حياتها، وربط الشركات بالبحث والتطوير في مؤسسات التعليم العالي.
بعد الحرب العالمية الثانية، منحت الوظائف في مجال التصنيع مداخيل مرتفعة ومزايا وظيفية جيدة في الولايات المتحدة، ما سمح للعمال بتشكيل طبقة متوسطة قوية ذات قدرة شرائية مهمة. لذلك كان فقدان الوظائف التصنيعية بالولايات المتحدة بمثابة خسارة قاسية، تمت إساءة تقدير أثرها. وقد نجمت هذه الخسائر عن عاملين اثنين: المنافسة الأجنبية، والأتمتة وغيرها من التغييرات التكنولوجية. فقد ظهر العامل الأول بجلاء عند انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في ديسمبر 2001، ومع تواصل انتشار العولمة سنة بعد أخرى. هذه الأخيرة قد تسببت في آثار عكسية غير مقصودة في الولايات المتحدة، تمثل أولها في ارتفاع تكلفة التكيف الاقتصادي في المجتمع الأمريكي مما جعل الطبقات المحرومة هي من تتحمل الجزء الأكبر من أعباء العولمة. أما ثانيها فيتمثل في أن ارتفاع الفعالية الإنتاجية صاحبه اتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية، وذلك راجع بالأساس إلى المكاسب التي ذهبت لأصحاب رؤوس الأموال ورواد الأعمال من ذوي المهارات العالية، فيما تضطر المجموعات التي لم تحظ بتعليم جيد لتحمل الخسائر. ويتجلى الأثر الثالث في ضعف تنقل العمالة، حيث إن بعض المناطق الجغرافية قد شهدت نسباً مرتفعة من البطالة وتزايد السخط الاجتماعي. كما أن بعض الوظائف ذات الأجور المنخفضة وذات الإنتاجية الضعيفة التي لم يعد العامل الأمريكي العادي مهتما بها قد تعرضت لجزء من هذه الخسائر. ولذلك فمن غير المحتمل أن تعود وظائف من قبيل صنع الأحذية وإصلاحها والخياطة إلى الولايات المتحدة. ومع ذلك، يمكن لبعض الوظائف التصنيعية والخدمات الراقية أن تعود، على الرغم من أن عددها سيكون ضئيلاً. وحتى وإن أغلقت الولايات المتحدة حدودها، سيستمر فقدان الوظائف في الازدياد بسبب التقدم التكنولوجي، لا سيما الأتمتة واستعمال الروبوتات. حيث أن مستقبل التصنيع الأمريكي يتأثر بشكل كبير بالتقنيات الحديثة. إن إعادة تشكيل طبقة متوسطة كما كان عليه الحال في الولايات المتحدة في الفترة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وسنة 2000 قد لا تتم أبداً نظراً للفجوة الكبيرة بين المهارات القليلة المتواجدة في القمة والمهارات التي تملكها بقية الساكنة. لذا فإن تقلص الطبقة المتوسطة سيستمر ما لم يتم وضع وتفعيل سياسات لوقف هذه التوجهات السائدة. ومن الممكن أن يكون جزء من الطبقة المتوسطة في حاجة لدعم المجتمع لكي تستمر الديمقراطية، وإلا فإن كافة الموارد المالية والسلطة والمهارات ستتجمع لدى مجموعة صغيرة من الأشخاص. حينها سيصبح دور الحكومة أكثر أهمية. وفيما قد تعتبر الأغلبية العظمى مجتمعاً كهذا عادلاً، قد لا ينطبق الأمر على أولئك الذين استثمروا المهارات واتخذوا الابتكار سبيلاً لهم للوصول إلى القمة.
ومن المنظور السياساتي، يجب الحفاظ على سياسة تعليمية مرنة للاستمرار في تقديم المواد العلمية والرياضيات للأطفال في سن مبكرة، وربما تطوير وقيادة مخطط سياسي واقتصادي لتمويل إعادة تشكيل الطبقة المتوسطة. هذا ويبدو أن تضييق فجوة التفاوتات في الدخل من خلال مخطط دخل شامل (لجميع الفئات المجتمعية) أو من خلال الدخل المكتسب أمر لا مفر منه، وهو ما قد ينتج عنه، إلى جانب ظهور اقتصاد تشاركي، إعادة تشكيل المجتمع دون المساس بأسسه الديمقراطية.